
آيس كريم في آن جيانغ
- sanaelyounoussi

- Jan 15
- 5 min read
كانت السيارة الرباعية الدفع تسابق الوقت و الأمطار لنصل إلى "تشاو دوك" قبل حلول الظلام ، لكن حالة الطريق المتآكلة لم تكن تسمح لنا بتجاوز سرعة الستين كيلومترا في الساعة، كنت الوحيدة التي تعاني من التوتر داخل السيارة، بينما كان الباقون منهمكين في النوم أو مراقبة الطريق و إجراء المكالمات الهاتفية دون أن يبدو عليهم أنهم منشغلين مثلي بساعة الوصول
الرحلة بين مدينة "سايغون" أو "هوشي منه سيتي" -كما أصبحت تسمى منذ سنة 1975 تاريخ رحيل القوات الأمريكية من فيتنام- و منطقة دلتا "الميكونغ" لا يجب أن تستغرق في أسوأ الحالات خمس ساعات، هذا ما أكده لي المصور الألماني الذي كان يرافقني في هذه الرحلة ، و هو ما جعلني أقرر السفر بعد الظهر لأستطيع على الأقل تسجيل بعض المقابلات في سايغون قبل الرحيل، فأيامي في فييتنام باتت معدودة ، إذ اني كنت قد قررت الذهاب إلى كمبوديا عبر النهر مباشرة بعد انتهائي من التصوير في دلتا "الميكونغ"
كانت "دونغ" المرافقة التي كلفتها وزارة الإعلام بمرافقتي في كل تحركاتي منذ أول يوم لوصولي، نموذجا صغيرا للموظف الحكومي الذي يبدي ولاء منقطع النظير للنظام ، والد "دونغ" عسكري برتبة مهمة في الجيش، و عضو في الحزب الشيوعي الحاكم، هي أيضا رغم أن عمرها لم يتجاوز الخامسة و العشرين عضو في الحزب، لم تكن "دونغ" تدخر جهدا في القيام بحملة بروباغاندا للنظام الحاكم كلما طرحت عليها سؤالا حول ظروف الحياة في بلدها و عن الطفرة الاقتصادية الكبرى التي حققتها بلدان أخرى في آسيا بينما هم في فييتنام لازالوا محكومين بنظام شيوعي لم يعد ذي جدوى في ظل التغيرات التي يعيشها العالم . كنت أرى الفقر في كل مكان، و ألمس مع كل يوم يمر على وجودي هناك أن الشعب الفيتنامي شعب مسكين، لا فكرة لديه عما يحدث خارج حدود بلدته و ليس بلاده،الدش في فييتنام غير مسموح به إلا بقرار إداري استثنائي و إجراءات معقدة، أما جهازالتلفزيون فهو ترف كبير يسمح لمن توفر لديه بمشاهدة المسلسلات الكورية، أو للغناء على أنغام "الكراوكي " التي يدمن عليه الكثير من الفيتناميين.
و نحن في الطريق إلى "تشاو دوك" كانت "دونغ" على اتصال مستمر برئيسها في الشغل، كنت أعرف أن زيارة منطقة أكبر تجمع للمسلمين في فييتنام تزعجهم و تجعلهم متخوفين من لقائي بالمسلمين الذين تم التنكيل بهم على مدى ما يزيد عن قرن على يد الشيوعيين، إضافة إلى أن مجرد اهتمام صحفية مغربية تأتي في عز فترة الصيف و الأمطار للقاء أقلية من المسلمين لا يسمع لهم صوت و لا يعرف عنهم أي شيء في بلد غالبيته العظمى من البوذيين، يثير الكثير من التساؤلات و الشكوك.
توتري كان يزيد كلما اقتربت الشمس من المغيب، الطبيعة كانت رائعة جدا في منطقة الدلتا، مزارع الأرز الخضراء المرتوية للتو من الأمطار على جنبات الطريق و المزارعات الفييتناميات بقبعات القش لا يتعبن و لا يكللن من العمل طوال النهار، و منظر الجواميس الضخمة و هي تحتل الطرقات الضيقة عائدة في المساء و هي محملة بما تم حشه من أرز في المزارع كانت تذكرني بطرقات البوادي في المغرب حين تحتلها الأبقار و الخرفان العائدة من المراعي مع بداية حلول الظلام . كنت منهمكة في تأمل وجوه المزارعين التي يعلوها التعب حين سمعت"دونغ" تناديني و ابتسامة ماكرة ترتسم على شفتيها : "لم يسمحوا لنا بالدخول إلى تشاو دوك ليلا، يتعين علينا قضاء الليلة في مدينة آن جيانغ ، لقد وصلنا إليها تقريبا"
السائق و دونغ و المترجم و المصور الألماني و زوجته اليابانية و مهندس الصوت الكوري ، كانوا جميعهم فرحين بالمبيت في آن جيانغ، أما أنا فكنت متخوفة جدا من أي قرارات مفاجئة تمنع وصولي إلى دلتا الميكونغ حيث كنت على موعد مع بعض المسلمين الذين رتبت للقاءهم في "سايغون" .
رفضت حين وصولنا إلى الفندق الخروج لتناول العشاء، كنت أحس بإحباط شديد و رغبة في البكاء، كنت أكملت الأسبوع الرابع و أنا بعيدة عن أهلي، و بدأت أضيق من كل شيء هنا خصوصا الطقس والأكل الفيتنامي . مرت ساعتان على وصونا إلى الفندق، كانتا كافيتين لأتذكر أني لم آكل شيئا منذ الصباح، اتصلت بالمترجم الذي كان سيعمل معي للمرة الأولى بعد فشلي في إقناع المترجمة التي رافقتني خلال الأسابيع الماضية في السفر معي إلى دلتا الميكونغ .كان هاتف "توان" المترجم يرن دون أن يأتيني أي رد، لم يكن أمامي سوى النزول إلى الدور الأرضي بحثا عن وسيلة لإيجاد مطعم أو مقهى في الحي الذي كنا ننزل فيه. كانت عاملة الاستقبال تستعد للنوم وراء سيارة تحتل بهو الاستقبال الذي ما هو في الواقع سوى "كاراج" الفندق . في الركن الذي يسمى تجاوزا "استقبالا" كان تمثال بوذا الذي لا يخلو منه أي بيت في فييتنام ، يتوسط بعض الشموع و بعض القطع النقدية و الأوراق المالية التي يضعها أمامه الزائرون المؤمنون، في حين وضعت آنية من الفواكه الطازجة بين يديه يبدو أنها كانت قربانا أحضره للتو أحد نزلاء الفندق .
حاولت أن أشرح للشابة أني أكاد أنهار من الجوع، و أني أبحث عن دكان قريب لأشتري منه أي شيء صالح للأكل، كنت أستعين بالإشارات و بملامح وجهي لأشرح الموقف، و بعد محاولات كثيرة ابتسمت عاملة الاستقبال و قالت "فو"، و هي تشير بيدها إلى الرصيف المقابل للفندق لتبعد نظري عن آنية الفاكهة التي كنت أعتقد أن بإمكانها أن تخفف عني آلام الجوع .. طبعا لم يكن في نيتي ساعتها أن آكل الحساء الشعبي الفيتنامي الذي يسمى "فو".. كنت متأكدة أن كل المطاعم هنا تحضره بلحم الكلاب ، فاللحم البقري و لحم الدجاج نادران في الأماكن النائية، وحتى إن توفرا فليس في ساعة متأخرة من الليل.. شكرت عاملة الاستقبال و عيناي معلقتان بصحن الفاكهة، كانت اللئيمة تعرف ما يدور بداخلي و أني كنت أطمع في كرم "بوذا" ليقتسم معي بعضا من فاكهته ، لكنها بدأت في إطفاء النور لتستعجلني على الرحيل، فلم يكن أمامي سوى مغادرة المكان ومعاودة الاتصال بالمترجم.
جاءني الصوت هذه المرة من مكان صاخب، كنت بالكاد أسمع صوته فأخبرته أني أحاول العثور على دكان قريب لشراء بعض الفواكه بسبب تأخر الوقت و صعوبة إيجاد مطعم في المكان الذي كنا فيه، اعتذر"توان" لأنه لم يكن بإمكانه ترك سهرته و القدوم لمساعدتي، لأنه خرج للقاء بعض الأصدقاء الذين درسوا معه في جامعة هانوي ، و أمام عجزي عن استدرار عطف مترجمي الذي كان يبدو من صوته منتشيا و غير مستعد لإفساد سهرته بسبب محنتي التي لم تكن نهمه كثيرا و لا تدخل في اتفاقي معه كمترجم ، طلبت منه أن يلقنني على الأقل كيفية نطق كلمة فواكه باللغة الفيتنامية لأتدبر أمري بنفسي كما تعودت أن أفعل دائما .
و بعد ما يزيد عن نصف ساعة في ترديد كلمة "كي كي" في وجه كل من صادفته في طريقي في ذلك الوقت المتأخر من الليل دون جدوى ، أشار لي أحدهم - و كنت عازمة على العودة إلى الفندق دون أن أشتري الفواكه إن لم يستطع أن يدلني على دكان قريب- أشار لي أن هناك مباشرة حيث يوجه سبابته يوجد ما أبحث عنه. انفرجت أساريري فجأة و أحسست أن الفرج قريب، شكرت الرجل بكل ما أوتيت من لطف و انطلقت كالسهم حيث كان ضوء بعيد وبعض الكراسي البلاستيكية على الرصيف تلوح من بعيد .
بثقة زائدة و تفاؤل كبير اعتقدت أني على وشك العثور على مطعم صغير و أني لم أعد بحاجة لدكان يسعفني ببعض الفواكه، حتى أني فكرت أنه لا مانع لدي من أن أطلب حساء "الفو" فقد كنت بحاجة لطعام حقيقي و أن الفواكه لم تعد تفي بالغرض بعد كل هذه المسافة التي قطعتها مشيا على الأقدام، و أن وجبتي الأولى لهذا اليوم ستكون ساخنة تعوضني عن جوع اليوم بأكمله. إلا أنه كلما اقتربت من المحل كانت الأفكار تتبدد شيئا فشيئا، صحيح أني لم أتمكن من قراءة ما كتب على اليافطة الكبيرة فوق باب المحل، إلا أن رسم الآيس كريم على الباب لم يترك لي مجالا للشك.. سألت بكل حسم صاحب المحل و قد قررت أن أعود للسؤال عن الفواكه : كي كي ؟ لكن الرجل ابتسم في وجهي و صحح لي ما قلته مشيرا إلى ثلاجته التي يستعرض فيها بضاعته "كي كيم" و معناه آيس كريم بالفيتنامية .
بعد لحظات من الاختيار العشوائي لبعض النكهات كنت أجلس على الكرسي الوحيد على الرصيف و قد أدخل عمال المحل كل الكراسي و شرعوا في تنظيف الرصيف في انتظار أن تنتهي هذه الزبونة الغريبة من طلبها.. أما أنا فقد كنت أضحك على جهلي الذي كلفني كل هذا العناء، و أنا ألعن في قرارة نفسي مترجمي الذي لم ينبهني إلى التشابه بين كلمتي "كي كي" و "كي كيم".. كانت الميم في آخر كلمة الآيس كريم حاسمة في تلك الليلة .








Comments