روح الروح
- sanaelyounoussi

- Jan 29
- 4 min read
تخليدا لروح الشهيد خالد النبهان و حفيدته ريم أو "روح الروح"
النحيب يصل إلى الغرفة التي اجتمع فيها كل أطفال العائلة، في انتظار أن يأذن لهم الكبار بالخروج.
كل الأمهات كن في حجرة الدرس التي تحولت إلى غرفة تأوي العائلات النازحة، والذي أفرغ من كل شيء تقريبا حتى يتسع لنساء جميع العائلات النازحة اللواتي جئن للتأكد بأنفسهن من أن ريم قد استشهدت فعلا. خارج الغرفة، لم يكن أي شيء في الممر يتحرك، عقارب الساعة المعلقة على الحائط المشقوق توقفت، الدجاجات في حوش المدرسة افترشن الأرض، الجرو الذي كان يلعب مع ريم حتى صباح اليوم تخلى عن حركته ولازم ظل الجد أو "الشيخ خالد" كما يناديه الكل.
حتى “الشيخ خالد" الذي كانت حركته لا تتوقف طوال اليوم، متنقلا بين غرف الجيران والأهل والأصدقاء، شاخ فجأة ولم تعد تحمله قدماه، من اللحظة التي دخل فيها إلى المدرسة حاملا جثة الطفلة.
باب الغرفة التي وضع فيها باقي الأطفال يترك قليلا من الضوء يتسرب إلى الممر الذي جلس فيه الجد ويجعل ظله يبدو طويلا، أطول مما يبدو عليه في العادة. وفي انعكاس ظله على الحائط تظهر لحيته وكأنها أشعة شمس المنتصف.. مشعة وممتدة.
يعلو صوت النحيب فجأة، وتعود الحركة إلى البيت بمجرد خروج أول النساء من الغرفة التي اجتمعت فيها النساء.. كل شيء تحرك، إلا الجد، ظل في مكانه لا تحمله قدماه، نظرته شاردة، وجهه هادئ، دموعه تنهمر في صمت، يحاول أن يرسم على شفتيه ابتسامة ليطمئن الجميع أنه لازال يعي ما حوله، لكن قلبه لا يطاوعه أن يبتسم.
تقترب السيدة التي تحمل الجسد الصغير من "الشيخ خالد" وتناوله إياها، يمد يده ويأخذها برفق، يضمها لصدره، يأخذ نفسا وكأنه يستنشق روحها لآخر مرة، تعود ابتسامته تدريجيا، ويبدأ في مخاطبتها: اصحي يا ريم، اصحي يا سيدي، أنا جبت لك الحلوى، يلا خلينا نروح عند الأولاد نوزع عليهم الحلوى يا سيدي ونلعب معهم.
ريم لا ترد.. لكن أصوات البكاء والنحيب تتعالى، والأطفال بدأوا يتوزعون في كل أرجاء الممر، لا أحد منهم يدرك ما يجري حوله، لكنهم يدركون أن الجد أصبح يبدو أكبر مما كان عليه قبل ساعات قليلة، وأن ثمة شيئا حصل له للتو لكي يصير الرجل الذي كانت ضحكته تملأ البيت والبيوت المجاورة والشارع والشوارع المجاورة، أشبه بكائن خرج للتو من تحت الأنقاض، لا هو يدري إن كان لازال حيا، أم أنه سلم روحه وروح حفيدته التي تبدو كقطعة قطن بين يديه، إلى بارئهما في السماء.
تقترب طفلة من الشيخ، تسحب جلبابه لينزل إليها فترى ريم ببنطالها الأزرق وسترتها المخططة بالأحمر والأزرق عن قرب، ينزل إليها، فيجتمع كل الأطفال حوله، متسائلين لماذا لا تتحرك ريم.. يقول أحدهم: "أنا أعرف، هي تعمل حالها نايمة "، يقول آخر "لا، ريم استشهدت“، تقول أخرى "لا، ريم ما استشهدت.. ريم ما تستشهد" .
يبتسم الشيخ خالد، حتى يعتقد أن وجهه قد تشقق وهو يبتسم، كان قد مضت على آخر ابتسامة له مع ريم بضع ساعات.. كان ذلك حين خرج في الصباح وهو يحملها فوق أكتافه، كانت كالعادة تلعب بعمامته البيضاء، بيديها الصغيرتين، وكان يتظاهر بأنه يلتهم أصابعها التي تشبه عيدان صغيرة ملفوفة بحلوى غزل البنات، ينطلقان خارج البيت، تتبعهما الدجاجات والديك والجرو، وتحلق حولهما الفراشات والنحلات الصغيرات، وكأنها تحاول أن ترتشف من رحيق "ريم" لآخر مرة.
يتذكر الجد أنهما مرا في طريقهما -المؤدي إلى الهلاك وهو لا يدري- بالجدة "صابرة"، كانت تجلس أمام خيمتها المصنوعة من أكياس الدقيق وتنظر للمارة المنهكين وتدعو مع كل من اقترب منها بالاسم وتسأله عن أحواله وأحوال أهله، وإن كان قد سمع أي أخبار عن متى تنتهي الحرب.. حين مر الجد وريم على اكتافه من امامها، لم تكتفي بالسؤال الذي تحفظه عن ظهر قلب ولا تنتظر عنه جوابا، انفرجت أساريرها، واعتدلت في جلستها كأنها رأت ملاكا من السماء: " أهلا بالأحباب، أهلا بالغوالي"، فينحني الشيخ خالد على رأسها ليقبله، ويخرج من كيس بيده باقة ورد وجده مزهرا وراء سور المدرسة التي يسكن فيها وبقية أهله، فقطف منه باقة صغيرة، وهو يعلم أنه سيمر بخيمة الحاجة صابرة أم الشهداء كما يلقبها اهل الحي.. قبل ان يكمل طريقه، تدعو معه: روح يا ما الله يسعد روحك، فيرد عليه: روحي وروح روحي، وقبل أن يتحرك من مكانه، تسقط قذيفة على المكان، تقع في منتصف خيمة أم الشهداء، فتلتحق هذه الأخيرة بشهدائها في الحال، بينما يقع خالد وريم على الأرض وسط صراخ الأطفال والنساء ووسط أزير طيارات العدو التي ظلت تحلق على ارتفاع بسيط حتى بعد تنفيذ "مهمتها" ... يتذكر الجد خالد، أنه بعد أن استعاد وعيه، بدأ يبحث عن ريم: " ريم، ريم، وينك يا سيدي؟ ريم.. “، قبل أن يكل جملته مجددا، رأى ريم على الأرض، ناداها وناداها وناداها، لكن ريم كان قد أسلمت روحها إلى خالقها.. ليست وحدها فقط، عشرات من الأطفال والنساء والعجائز التحقوا بقافلة الشهداء في تلك المجزرة الجديدة للاحتلال.
يستفيق الجد خالد من أفكاره، على صوت سيارة الإسعاف والمسعفين، يطلب منه أحدهم أن يضع جثة ريم بجانب جثة طفل آخر لم يتجاوز عمره بضعة أشهر. لا ينطق الجد، يستمر في احتضان قطعة القماش بين يديه، جثة ريم هي الغيمة، ودموعه التي لا تنزل أشبه بحبات مطر تتجمع في مقلتيه، ولا تريد النزول. يقول أحدهم: لا إله إلا الله.. كأنه يحاول ان ينتزع أي كلمة أو صرخة من الجد.
يستمر الجد في ضم حفيدته، يستنشقها، ويداعب وجهها الصغير بلحيته، يفتح عينيها و يزرع قبلة في العين اليمنى، ثم قبلة في العين اليسرى، ثم تخرج أول كلمة من حلق الشيخ: هاذي روح الروح ... هاذي روح الروح ... هاذي روح الروح
**الأحداث هي من وحي الخيال ، و الشخصيات حقيقية








Comments