الإرهاب و النقاب
- sanaelyounoussi

- Jan 15
- 4 min read
قطعت اليمن من الشمال إلى الجنوب عبر البر سنة 2005، كانت ثاني زياراتي ، وكان قد بدأ يتكون لي تاريخ و ذكريات في ذلك البلد الذي لازمني بعد عودتي إلى واشنطن. مهمتي هذه المرة كانت أصعب، وجه جديد لليمن سأتعرف عليه، و سأخرج من صنعاء لأزور القرى و المدن التي ستوصلني إلى "عدن" و من ثمة إلى محافظة"أبين" حيث تقرر أن ألتقي في مدينة "جعار "خالد عبد النبي" أحد المتورطين في حادث هجوم على قافلة طبية أمريكية راح ضحيته عدد من اليمنيين و الأجانب.
قطعت قاعة التحرير في قناة الحرة و صعدت الدرج المؤدي للدور الأول حيث يوجد مكتب مدير الأخبار، هذه المرة أنا من طلب منه أن يسمح لي بالذهاب إلى اليمن لتصوير فيلم وثائقي عن الإرهاب، لم يتردد "موفق حرب "كثيرا، كان يظن أني مجنونة، أنا التي كنت قد عدت للتو من السودان، ها أنا أفكر في العودة إلى اليمن و قطع كل تلك المسافة من جديد.
اتفقنا أن يكون اسم الوثائقي "الإرهاب ، و الإرهاب الآخر"، وثائقي وصفته بعض الصحف اليمنية بعد العرض أنه كان أهم وأشمل برنامج تلفزيوني تبثه قناة عربية عن الإرهاب ودوره في الصراعات المسلحة التي عاشتها اليمن طوال الخمسة عشر سنة الماضية . حاولت فيه من خلال ساعتين تلفزيونيتين أن أستعرض المشهد اليمني كاملا و أن أناقش مع ما يقارب الأربعين ضيفا مشكلات العنف والصراعات المسلحة والإرهاب (الأصولي) الجديد ونسخته اليمنية الخاصة، والعلاقة المركبة التي تجمع هذا الإرهاب الخاص مع بعض مكونات السلطة ، وبعض الجماعات السلفية الجهادية و ..و ..و .. كانت التفاصيل مربكة و متدفقة إلى حد كبير و كان من الصعب الخوض في هذا الملف الشائك في وقت قصير ، لولا مساعدة الصحفي المتميز "نبيل الصوفي" الذي كان قد ترك منصبه كرئيس تحرير لجريدة "الصحوة" الناطقة باسم حزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمين) ليؤسس موقعه الإلكتروني "يمن نيوز" الذي استطاع في وقت وجيز أن يتحول إلى أهم مصدر للخبر في اليمن السعيد.
كان من غير الممكن الخوض في موضوع الإرهاب في اليمن دون الحديث عن تجربة المراجعات التي أوكلت للقاضي "حمود الهتار". كان هذا القاضي هو الطرف الممثل للحكومة اليمنية في عملية الحوار الفكري مع معتقلين في سجون صالح، حوكموا بتهم متعلقة بالإرهاب. كان طارق الفضلي و ناصر البحري المرتبطين بتنظيم القاعدة ضمن هؤلاء المعتقلين، ناصر و طارق كانا من المقربين جدا لأسامة بن لادن، إلا أني لم أنجح في إقناع القاضي - و لا الجهات التي كانت مكلفة بمتابعة مفاوضاتي معه- بأهمية مقابلتهما، فنصحني نبيل الصوفي بطلب مقابلة "خالد عبد النبي" زعيم جيش عدن أبين الإسلامي، و قد كان يروج حينها في الأوساط الصحفية أن القاضي كان يتباهى بكون الحوار مع زعيم هذا التنظيم الذي كان يعتبر واحدا من أهم التنظيمات "الإرهابية" استمر ساعة واحدة فقط حتى يتراجع عن أفكاره المتطرفة و يعود إلى الحياة المدنية بكامل إرادته.. أو على الأقل هكذا كان يسوق لحملة المراجعات الفكرية في اليمن .
كانت الرحلة من صنعاء إلى "جعار" طويلة جدا ، و لا أدري إلى اليوم لماذا رفضت أخذ الطائرة من صنعاء إلى عدن و توفير كل تلك العذابات، نقاط التفتيش العسكرية ، حالة الطرق المتآكلة، الحرارة المفرطة وإصرار السائق على الانتقام ممن فكر مجرد تفكير في تجاوزنا ، دون أن ننسى كل تلك المرتفعات الشاهقة التي كان علي تحملها أنا المصابة بفوبيا المرتفعات . حين بدأت أنوار عدن تلوح مع بداية حلول الظلام اعتقدت أن كل شيء قد انتهى و أني سأنعم بساعات من الراحة في انتظار صباح الغد. إلا أني بمجرد ما ترجلت خارج السيارة أحسست بتلك الرطوبة الخانقة و الحر غير المتوقع إطلاقا .. كانت صنعاء تبدو لي ساعتها و كأنها قطعة من الجنة، لكنها كانت بعيدة و لم أنجز بعد المهمة التي جئت لأجلها .
بدأت منذ الصباح أحاول دون جدوى الاتصال بخالد عبد النبي الذي كنت قد تحدثت معه من صنعاء بنفسي و حدد الموعد في "جعار" بعد صلاة العشاء ليوم الجمعة، لكن أمام تكرر الاتصال دون الحصول منه على رد بدأت أقلق و اتصلت بالقاضي الهتار، الذي أخبرني أن "الشيخ" خالد يفضل أن يكلمه رجل لأن صوت المرأة عورة، و أنه لن يكون بإمكاني إجراء المقابلة معه بنفسي بل علي إرسال "ذكور" للقيام بالمهمة .لم يكن السائق و لا المصور و لا مهندس الصوت يفون بالغرض، لم يكن أمامي سوى الاستنجاد بالصحفي "مروان الخالد" الذي كان ساعتها مراسلا لقناة الحرة في اليمن، اتصلت به في صنعاء و لم تمض ساعات حتى كان بيننا في عدن، كان مروان قبل التحاقه بقناة الحرة يعمل في التلفزيون اليمني، كان يعرف جدا عقلية النظام و طريقة تعامله مع الصحافة الأجنبية، و أظن أنه لهذا السبب كان متخوفا جدا من سماحهم لي بلقاء الشيخ "التائب"..
أمام إصراري على أن أحضر بنفسي أثناء تسجيل المقابلة ، استطاع مروان أن يصل إلى اتفاق مع الشيخ "خالد" على أن أنزوي أبقى معهم شرط ألا أنطق بكلمة واحدة، و أن أجلس في ركن قصي حتى لا تقع عيني الشيخ علي .. كانت الغرفة أصلا ضيقة جدا ، و كنت أرتدي برقعا لا يظهر منه سوى عيوني التي ابتدأت تلتهب بسبب ملامسة القماش الأسود لعيوني طوال النهار.. اتفقت مع مروان على الأسئلة و التزمت الصمت .طالما كنت قد سمعت قبل هذا اليوم عبارة "أتصبب عرقا" فقط في هذا اليوم فهمت معناها، كانت الرطوبة عالية و الحر خانقا، إحساسي لم يكن بعيدا عن ذلك الذي يشعر به الجالس تحت سحابة ممطرة. كنت أتنفس بصعوبة في تلك الغرفة التي انحشر فيها ما لا يقل عن ستة أشخاص، كانوا جميعهم يرتدون ما خف من الثياب ، وحدي أنا كنت أرتدي عباءة من قماش أسود رديء اشتريتها من أحد أسواق صنعاء دون أن أنتبه لنوعية القماش المصنوع من النايلون. لم تنجحالحرارة القاتلة المسيطرة على المكان من أن تمنعني من التركيز مع لعبة السين و الجيم، و بما أن مروان لم يكن يعرف بالتحديد ما كنت أريد أن أحصل عليه من الرجل و بما أنه التزم فقط بالأسئلة التي كنت قد وضعتها على عجل، حبست أنفاسي و قلت أنه لن يحصل لي أسوأ مما أنا فيه، و قررت التعقيب على رد لخالد عبد رب النبي لم أجده مقنعا، ساد الصمت في الغرفة للحظات، ورد علي الشيخ دون اعتراض، و هو ما جعلني أفهم أنه بإمكاني الاستطراد في الحديث، حاولت أن أعرف منه سبب عداءه للاشتراكيين الذين قاتلهم بعد عودته من أفغانستان، و طلبت منه أن يشرح لي ماذا تغير في قناعاته بعد الحوار، كان الشيخ خالد في أول جواب يوجه الكلام لمروان الجالس أمامه، و في ثاني سؤال ابتدأ يعود برأسه إلى الوراء و يوجه الكلام لي أنا الجالسة وراءه، و هكذا ، حتى أنه في آخر سؤال طرحته عليه كان مبتسما ومنشرحا وينظر إلي دون خجل أو حياء ..
لم ينس "الشيخ" خالد أن يعبر لنا عن ارتياحه و نحن نشرب معه الشاي باللبن بعد انتهائنا من التصوير .. أما أنا فكنت قد نسيت الرطوبة و الحرارة المفرطة ، كل ما كنت أفكر فيه و أنا أغادر "جعار" ، هو أني سأعود من رحلتي و معي الدليل على أن خالد عبد النبي هو فعلا عميل من عملاء الأمن السياسي في صنعاء.








Comments