السودان..الحرب المنسية
- sanaelyounoussi

- Jan 14
- 3 min read
هناك مدن إما أن تحبها من النظرة الاولي أو تنفر منها الي الأبد , بهذا التوق كنت أفكر عندما هبطت طائرتي في مطار الخرطوم ذات نهار صيفي مرت عليه أعوام كثيرة , لم تكن وجهتي الخرطوم نفسها بل دارفور, قرأت وسمعت عن الجنينة اسم عاصمة إقليم دارفور السوداني , ولكنها في هذا الوقت لم تكن الجنة التي يوحي بها اسمها , بل كانت موقعا لمذبحة. هناك تحتدم الحرب الاهلية بين القوات الحكومية والحركات المتمردة في دارفور , ولكن المذبحة الحقيقية كانت في التطهير العرقي الذي تعرض له الأهالي من غير العرب في الإقليم والتي قتل فيها مئات الآلاف وهجر مئات الاف آخرين إلى تشاد في مخيمات مازالت قائمة حتى اليوم وبعد مرور كل تلك السنين.
وفي هذا العام الذي قررت فيه الذهاب إلى السودان بلغ الصراع ذروته , ولكن وسائل الإعلام العالمية لم تهتم به كما تستحق كل هذه النفوس التي أهدرت بلا جدوى عل أرض دارفور , وعندما عرضت فكرة برنامج وثائقي عن التطهير العرقي في دارفور على المسئولين في القناة الأمريكية التي كنت أعمل بها لم يفكروا كثيرا بل جاءت الموافقة سريعا.
سأذهب إذا إلى السودان وسأعمل مع شركة خاصة لتصوير البرنامج الوثائقي وسأرى بنفسي ما يجري عندما أصل إلى دارفور بجبالها ومراعيها وأهلها ومدنها.
وسأحمل ثلاثين ألف دولار نقدا في حقيبتي! وجعلتني هذه الفكرة أفيق من أحلامي , فقد كان السودان تحت طائلة عقوبات أمريكية تمنع التحويلات المالية اليها من الخارج , بينما كان من الضروري أن تحصل شركة الإنتاج الخاصة هناك على مستحقاتها المالية عند وصولي , ولم يكن هناك مفر من أن أحمل أنا , الصحفية المغربية الشابة والتي تزور السودان للمرة الأولى وتلقي بنفسها داخل منطقة حرب أهلية عشرات الآلاف من الدولارات في حقيبة يدها.
لم أنم طوال الرحلة من واشنطن إلى القاهرة ومن القاهرة إلى الخرطوم. وكنت أتوقع الكثير من التساؤلات وأنا أعبر جمارك الخرطوم بحقيبة محشوة بالعملة الصعبة، لكن الأمور مرت بسلام.
كان نظام البشير يحكم قبضته -شأنه كشأن سائر الديكتاتوريات- على الإعلام ويقيد حركة الصحفيين السودانيين والأجانب، للتغطية على الانتهاكات التي تمارسها ميليشيات "الجنجويد" المتحالفة مع النظام في حق قبائل الفور، كانت قصص حرق قرى بأكملها والاغتصابات الجماعية، وقتل الماشية بغرض تهجير السكان، معروفة لدى الجميع، لكن النظام الذي كان يحترف الكذب كان ينفي جملة وتفصيلا أن أيا من ذلك يحدث في أقاليم دارفور المنكوبة، وأنه مجرد مناوشات بين بعض قبائل الفور والعرب حول الماء والكلأ.
وهكذا.. قضيت ما يزيد عن الأسبوعين في الخرطوم في انتظار تصاريح التصوير والسفر، وكنت أتردد على وزارة الإعلام يوميا دون أن أحصل على إجابات، لكنني لم أضيع الوقت بل حصلت في هذه الفترة الذي قصدت به الآلة الحكومية إبعادي عن القصة الحقيقة، حصلت علي رواية حركتي العدل والمساواة و تحرير السودان اللتين كانتا تقاتلان القوات الحكومية في دارفور، وحصلت علي صور توثق للانتهاكات.. صور بقيت ظلالها ترافقني بعد الانتهاء من مونتاج العمل في الفيلم الوثائقي وعرضه لفترة طويلة.. صور وأصوات ضحايا الحرب، بكاء وصرخات النساء والأطفال.. ومشاهد الدم.
عادت كل هذه الذكريات في الأشهر القليلة وأنا أتابع الحرب الدائرة في السودان.
ما أشبه اليوم بالبارحة، ميليشيات الجنجويد أصبحت الآن تسمى قوات الدعم السريع، و النظام الحالي صار يتهمم من قبل خصومه بأنه وجه آخر لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير، مشاهد اللاجئين على الحدود التشادية هي ذاتها، و صرخات النساء و الأطفال لم تتغير، وما زال العنف الجنسي أداة من أدوات الحرب لترويع الناس، ربما الشيء الوحيد الذي تغير هو المشهد في الخرطوم و أم درمان، اللتين تحولتا إلى ساحة للقتال. ربما لم تشهد البلاد دمارا مثل الذي تشهده اليوم في تاريخها منذ سقوط الخرطوم في يد القوات البريطانية وهزيمة الخليفة التعايشي وانتهاء الدولة المهدية عام 1898
في ديسمبر 2021 كتبت على "تويتر": الهبة السودانية في 2021 أكثر من موجة ثانية للربيع العربي. ثورة شعب السودان العظيم ضد حكم العسكر وضد الفساد والاستبداد أحيت قليلا من الأمل في أن الشعوب دوما تنتصر ولو بعد حين.
لم تكن ملامح ما يحدث في البلاد قد اتضحت بعد، فقد استولي الجيش علي مفاصل السلطة، وأدارت البلاد حكومة مدنية لم تصمد طويلا، ودارت مفاوضات عقيمة مع القوي المدنية وظلت البلاد في حالة تشبه البركان الخامد لحظات قبل انفجاره.. وسأترككم تخمنون البقية.
مع بداية حرب غزة وبعد ما يزيد عن سنة من تغطية مستمرة للحرب في السودان، تراجع الاهتمام الإعلامي بحرب البرهان و حميدتي، و أصبحت الفظاعات ترتكب في صمت، ويحمل وطأتها شعب ودود طيب , أو من تبقي منه في البلاد, صوت واحد لازال يسمع صداه في شوارع السودان على أمل أن يتذكر الناس هذه الحرب المنسية..
شعباً مرق ساب البيوت
ما عنده رجعة
إلا البيوت تلقى الخلاص








Comments