الصحافة جريمة
- sanaelyounoussi

- Jan 13
- 3 min read
مع أنى كنت أظنها -مثلكم تماما- ليست كذلك!
انتشر هاشتاج "الصحافة ليست جريمة " في كل مكان قبل عشر سنوات من اليوم، كانت حينها الأوساط الصحفية والإعلامية تعيش على وقع اعتقال السلطات المصرية يوم 29 ديسمبر ،2013 ُ، على ثلاثة من صحفيي قناة الجزيرة الناطقة باللغة الإنجليزية في مصر بتهم بث أخبار كاذبة والانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة.
أذكر هذا اليوم، كما لو كان بالأمس، كنت حينها في القاهرة أنهي تصوير فيلم وثائقي عن قطار الصعيد في مصر.
لا أذكر عدد المرات التي كنت قد سافرت فيها على متن القطار من الإسكندرية إلى أسوان خلال هذه الرحلة، ربما عشرات المرات، وفي كل مرة كنت أقول فيها أنى رأيت الأسوأ، يخيب ظني في المرة التي بعدها ويحدث ما هو أسوأ..
اخترت لفيلمي اسم "قطر الصعيد" اسم بسيط ويبدو أني لم ابذل أي مجهود لأجد له اسما آخر، واغلب الظن أن وصلت إلى مرحلة إيجاد عنوان للعمل وأنا منهارة من شدة التعب ومن هول ما رأيت.
حين وصلت إلى القاهرة في بداية التصوير الذي استغرق مني سنتين، كانت الشوارع لازالت في القاهرة كما في صنعاء والرباط وطرابلس وتونس ودرعا وغيرها تردد "الشعب يريد.. “قررت ان ابتعد عن ميدان التحرير الذي كانت تتجه له انظار العالم وعدسات الكاميرات، وآخذ كاميرتي وفريق عملي لنقل حكايات الثوار الذين كانوا يجيئون من كل انحاء مصر للمشاركة في الثورة.
خلال رحلات الذهاب والعودة، صحوت من نوم عميق يناديني "القطر ولع يا خالة" لأجد نفسي الوحيدة الباقية على متن القطار الذي شب حريق في إحدى مقطوراته أثناء تحضير أحدهم الشاي.
في إحدى الرحلات وكان يوم عيد الفطر، وصل نداء لسائق القطار الذي كنت أسجل مقابلة معه، أن يتوقف فورا في محطة "طشت الكوم" لأن هناك تبادلا لإطلاق النار بين عائلتين في قرية نجع حمادي في الصعيد المصري طلبا للثأر.
في إحدى الرحلات وغير بعيد عن مدخل مدينة الإسكندرية، توقف القطار فجأة لدرجة أن كل الواقفين أصبحوا في لحظة على الأرض حين دهس القطار شخصا كان يحاول العبور في غير المعبر للمخصص لذلك، ومن سوء حظي حين توقف القطار كانت نافذتي تطل مباشرة على بعض بقايا الجثة.
في السنوات الأخيرة أصبح الحديث عن اضطراب ما بعد الصدمة رائجا في قاعات التحرير وفي أوساط الصحفيين، حتى أنى قرات في بحث للمركز الدولي للصحفيين نتائج استبيان شارك فيه أكثر من 1,406 صحفي من 125 دولة، عن الأوقات العصيبة التي يمر بها الصحفيون على الصعيد النفسي. من بين الأرقام اللافتة هو أن 70% من المشاركين في الاستبيان اختاروا الآثار النفسية والعاطفية على أنها أكبر تحد يواجهون في عملهم.
دعنا نأخذ آخر سنتين -فقط- في حياة أي صحفي عامل في غرفة أخبار تغطي الأحداث السياسية في العالم العربي -وأنا منهم- ولنرى.
قبل سنتين اغتيلت شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة الجزيرة في فلسطين على الهواء مباشرة، وكانت ترتدي بذلة الصحافة، وغطى زملائها الصحفيون في كل قنوات العالم، عملية اغتيالها بل وحتى اعتداء القوات الإسرائيلية على مشيعيها ونعشها، كانت حدثا عظيما، كانت الصور قاسية وأكثر من ذلك من الأكيد أن تأثيرها لن يزول قريبا.. أذكر أثناء التغطية كان الكل بدون استثناء في غرفة الأخبار يبكي من هول الصدمة.
بعدها بفترة قصيرة، حصل الزلزال الذي ضرب أجزاء واسعة من تركيا ومن الشمال السوري، من منا لا يذكر صور الناجين وأولئك الذين قضوا وذويهم، أنا شخصيا لازلت أسمع الأنين المنبعث من تحت الأنقاض لطفلة ظلت فرق الأنقاض تحاول إنقاذها لأيام.
مباشرة بعد زلزال تركيا، حدث زلزال آخر في المغرب، وبين ليلة وضحاها مسحت قرى كاملة من على الخريطة، عائلات بأكملها لم ينج منها أحد، عرس كامل، لم ينج أحد، ساعات قليلة كانت تفصل بين رقصات الأهل ونحيب جيرانهم في القرى المجاورة الذين يئسوا من إخراج جثثهم من تحت الأنقاض. وغير بعيد عن المغرب، مقابر جماعية بالآلاف وجثث لفظها البحر بعد فيضانات درنة في ليبيا، والكاميرات تصور وغرف الأخبار تنقل والصحفيون من المسافة صفر يغطون الأحداث التي تنبعث منها رائحة الموت.
كل هذا ولم تحدث بعد مجازر غزة.. لأن غزة لوحدها حالة غير مسبوقة في تاريخ الحروب من حيث عدد الصحفيين الذين قتلوا أثناء تغطيتهم لها، فأكثر من ثلاثة أرباع الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام الذين قُتلوا في جميع أنحاء العالم عام 2023 والبالغ عددهم 99 صحفياً لقوا حتفهم في الحرب على غزة، وفقاً لتقرير صادر عن لجنة حماية الصحفيين، في حين ان عدد الصحفيين الذين قتلوا في غزة منذ بدء الحرب قد بلغ عددهم 143 صحفيا حتى يومنا هذا.
جثث هنا وهناك وكمية عنف ودمار وعلى الصحفي أن يستمر في تغطيتها ، أن يستهلك كل هذه الصور و الفظاعات، وأن يشاهد زملاءه وأهله وهم يقتلون كما حصل مع زميلي "وائل الدحدوح". ألا تتحول الصحافة في هذه اللحظة بالذات جريمة يرتكبها الصحفي في حق نفسه وحق من يحب.
أقول هذا وأتذكر نبوءة محمود درويش، وأفكر في كل الصحفيين الشهداء هناك: إذا سألوك عن غزة فقل لهم بها شهيد، يُسعفه شهيد، ويُصوّرهُ شهيد، ويُودّعهُ شهيد ويُصلّي عليه شهيد..








Comments