الميت الذي يمشي على الأرض
- sanaelyounoussi

- Jan 13
- 3 min read
عادت قصة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال إلى الواجهة بداية هذا الأسبوع من أوسع الأبواب.
لم أسمع أبدا عن بسام خندقجي ولم أقرأ روايته قناع بلون السماء -بعد- وكحال الكثيرين عملت بحثا بسيطا لأعرف المزيد عن الرواية الفائزة بجائزة البوكر العالمية لهذه السنة، وكانت المفاجأة.
تقول دار الآداب الناشرة للرواية في نبذة عن الكتاب: نور عالِمُ آثارٍ يُقيم في مخيَّمٍ في رام الله، ذات يوم، يجد هويَّةً زرقاء في جيب معطفٍ قديم، فيرتدي قناع المُحتلّ في محاولةٍ لفهم مفردات العقل الصهيونيّ وفي تحوُّلِ "نور" إلى "أور"، وفي انضمامه إلى بعثة تنقيبِ إحدى المستوطنات، تتجلَّى فلسطين المطمورة تحت التربة بكلِّ تاريخها.
الأسير الروائي بسام خندقجي الذي يرزح في المعتقل منذ عشرون عاما، ويقضي حكما بالسجن المؤبد 3 مرات، اخترق الليلة الماضية وجدران السجن وقضبانه ليعانق ولو لساعات معدودات فضاء الحرية بروايته التي تحتفي بلون السماء الأزرق وكأنه يقول إنه ليس للأحلام سقف. من حق السجين أن يحلم فما بالك إذا كان السجين فلسطينيا.
لعبة مصادرة الحرية، واختراق سقف الأحلام التي يلعبها السجان الإسرائيلي والأسير الفلسطيني، قديمة قدم الاحتلال لأرض فلسطين، حيث اعتقل أول أسير في الثورة الفلسطينية المعاصرة، عام 1965، وأصدرت إسرائيل بحقه حكما بالإعدام وحاولت تصفيته، لكنه نال الحرية في عملية تبادل للأسرى بعد 6 سنوات من اعتقاله. حكى حجازي بعد تحريره بسنوات أنه كان ينقل من محاكمة إلى أخرى بلباس الإعدام الأحمر، وهو يفكر في الأبطال الفلسطينيين الذين أعدموا قبله على يد الانتداب البريطاني منتظرا دوره على أرجوحة الأبطال ويقصد بها المشنقة! من أين يأتي هؤلاء الأبطال بكل هذه الصلابة وهذا الصمود؟
ليس من المبالغة أبدا الاحتفاء بالأسرى الفلسطينيين، وأظن ان بعض شهادات الأسرى والأسيرات المحررين والمحررات في صفقة تبادل الأسرى الأخيرة بين حماس وإسرائيل تشهد على ذلك. شهادات صادمة من شباب بل أطفال محررين، لم ينل الأسر من عزيمتهم وإيمانهم بفكرة محاربة الاستعمار ولو بمحاولة طعن تؤذيهم غالبا أكثر مما تؤذي المحتل.
على غرار قصة الأسير الروائي الذي حلق خارج أسوار السجن، من منا لا يذكر قصة أسرى "نفق الحرية"، قصة ملحمية أخرى أشبه بفيلم سينمائي، تحاكي قصة هروب حقيقية وقعت خلال الحرب العالمية الثانية وهروب سجناء من إحدى المعتقلات النازية، حين تمكن ستة أسرى فلسطينيين من الهروب من خلال نفق حُفر في زنزانة السجن باستعمال ملعقة صغيرة صدئة. بعد أربعة أيام، ألقي القبض على اثنين منهم، وبعد أسبوع واحد من الحرية كانوا قد أعيدوا جميعهم للسجن.. لكن طبعا لا شيء عاد كما كان من قبل.
أطلق على العملية اسم نفق الحرية، وهي في الواقع كانت أكبر مما يمكن اختزاله في هروب من واقع الأسرى في سجون الاحتلال الذي يخلو من الإنسانية، إنما هو قرار مواجهة وتحدٍّ، و قرار نضالي قبل أي شيء، يأخذ المواجهة مع المحتل إلى مستوى آخر، و يضع الأسرى الستة الذين خططوا و نفذوا في مواجهة ذات بعد مختلف مع المنظومة الأمنية الاستعمارية، ففي اللحظة التي بدأوا فيها تنفيذ مخطط الهروب، تحولوا إلى مشاريع شهداء أو في أحسن الأحوال إلى ملاحقين حتى تطالهم أيدي الاحتلال.
أسرى سجن جلبوع الذين حرروا أنفسهم بأنفسهم، تحولوا إلى رمز للإنسان الحر الذي ينتزع حريته بنفسه و لا ينتظر أن تمنح له، يختار وصف المتحرر بدل المحرر، هؤلاء الستة الذين كسروا القيد و لو لأيام قليلة، لم يضربوا المنظومة الأمنية الاستعمارية الإسرائيلية فقط، بل أطاحوا بفكرة العجز الذي يحاول المحتل غرسها في الوعي الجماعي لشعب كامل، أن يحلم الفلسطيني رغم كل محاولات العدو في إقصائه ونفيه وتجريده من كل مقومات الإنسانية يعني أنّ العدو فشِل في استعمار مخيّلته، فأولى بدايات التحرير هو تحرير المخيّلة.
و بما أن الشيء بالشيء يذكر، هناك قصة أسير فلسطيني آخر مليئة بالعبر، حتى أن إسرائيل وضعته بعد عملية طوفان الأقصى على رأس أولوياتها من الحرب على غزة .
عندما سُجن زعيم حماس في غزة يحيى السنوار في إسرائيل قبل أكثر من ثلاثة عقود، شرح الرجل لأحد سجانيه نظريته التي أصبحت الآن محورية في هذه الحرب على غزة. قال السنوار إن ما تعتبره إسرائيل نقطة قوة – أي أن معظم الإسرائيليين يخدمون في الجيش وأن الجنود يتمتعون بمكانة خاصة في المجتمع – هو ضعف يمكن استغلاله. أثبت الأيام صحة الفكرة في عام 2011 عندما كان السنوار واحدًا من 1027 أسيرًا فلسطينيًا تم إطلاق سراحهم مقابل جندي إسرائيلي واحد. ولو كانت إسرائيل تعلم بأن تحرير شاليط سيكلفها ما يكلفها اليوم لكانت تركته رهينة مدى الحياة عند حماس.
والآن، يحتجز السنوار 138 إسرائيليًا، بما في ذلك جنود، ويراهن على أنه قادر على إطلاق سراح آلاف السجناء الفلسطينيين وتحقيق وقف دائم لإطلاق النار، كم يتمكن السنوار من تحقيق هدفه خلال الأيام القادمة، وقد يجابه بتعنت مرضي من طرف نتنياهو الذي أصبحت الحرب هذه مسألة شخصية بالنسبة له، لكن شيئا واحدا يكاد يكون يقينا، هو أن السجون الإسرائيلية هي السحر الذي ينقلب على الساحر وأنها مصنع الأبطال الفلسطينيين.. و لنا في السنوار الميت الذي يمشي على الأرض خير مثال.








Comments