top of page
Search

مشاط في منتصف الليل

  • Writer: sanaelyounoussi
    sanaelyounoussi
  • Jan 15
  • 4 min read

أسوأ شيء يمكن أن يحدث لك وقد وصلت للتو إلى وجهتك بعد رحلة استمرت ما يزيد عن أربع و عشرين ساعة ، هو أن لا تجد حجزا باسمك في الفندق الوحيد الصالح للسكن في البلد ..كان موظف الاستقبال يعي تماما  أن ما يقوله لي كارثة بكل المقاييس ، ابتسامته الناصعة البياض و لطفه الزائد يقولان لي أنني أمام ورطة حقيقية  .

كان فندق هيلتون في "الخرطوم" هو الفندق الوحيد الذي يمكن أن تنزل فيه سيدة وحيدة غريبة عن البلد و هي مطمئنة "نسبيا"، لكن انعقاد مؤتمر دولي في العاصمة السودانية حينها تسبب في امتلاء فنادق العاصمة جميعها ، و طبعا الحجز الذي كان قد تم عبر شركة الأسفار في واشنطن لم يكن ذا قيمة أمام كثرة الطلب على إدارة الفندق .

كنت قد وصلت إلى مطار الخرطوم الدولي على الساعة السادسة صباحا، و لم تكن المرة الأولى التي سأزور فيها البلد، و كانت صداقات جميلة قد توطدت لي هناك خلال زياراتي السابقة. انتظرت طلوع الشمس حتى أتأكد أن الناس قد استفاقوا من نومهم، خصوصا و أن الشعب السوداني الجميل معروف عالميا بكسله اللذيذ و مزاجه الرائق الذي يصعب على أحد أن يعكره بسهولة ، و المثل السوداني يقول : إذا أحسست بأن لديك رغبة في العمل، استرخي قليلاً حتى تزول تلك الرغبة.

في حدود الساعة العاشرة، وصل الدكتور "إمام" مهللا و مرحبا إلى بهو الانتظارالذي كان يعج بضيوف المؤتمر، و قبل أن أكمل شرح تفاصيل الحجز الذي تم إلغاءه، كانت السيارة المرسيدس متجهة إلى "أم درمان" حيث سأقيم مع عائلة شقيق الدكتور "إمام" الذي لم يترك لي مجالا للرفض أو القبول . عائلة "عبيد"  هي إحدى العائلات السودانية العريقة التي تنتمي لأشراف الزاوية التيجانية، التي لها أتباع كثر في السودان، و كان لانتمائي لسلالة القطب مولاي عبد السلام بنمشيش في المغرب وقع خاص على هذه العائلة المتصوفة التي كانت ترى في إقامتي لديهم شرفا كبيرا، و الحال أنهم هم من شرفوني بهذا الاستقبال الدافئ الذي جعلني أعرف الكثير عن أهل السودان و أصالتهم .

كان الهدف من زيارتي هو تصوير فيلم وثائقي سيحمل فيما بعد اسم "الحرب المنسية"، أحداثه تدور في دارفور و أبطاله الجنجويد وضحايا  الإبادة و التهجيرالقسري في هذا الإقليم الشرقي الممتد على ما يزيد عن خُمس مساحة السودان و المنبسط على أخصب و أغنى أراضي البلد باليورانيوم و البترول. كانت الأزمة تحتل واجهة الأخبار منتصف عام 2005، و كان النظام السوداني يُسوق لها على أنها صراع بين الرعاة و المزارعين على الموارد الطبيعية ، و كأن الصراع على الكلإ يبرر الفظاعات التي كانت ترتكب في حق مئات الآلاف من السودانيينالأبرياء. 

في انتظار حصولي على تصاريح السفر إلى دارفور، كنت أقضي يومي في تسجيل مقابلات مع سياسيين في الحكومة و المعارضة،  و كان "ختم السر" شقيق الدكتور إمام لا يبخل علي بالمساعدة في الاتصال بكبار المسئولين في البلد، و يوميا بعد ساعات طويلة من العمل في عز الحر، كنت أعود إلى البيت لألتف مع العائلة حول مائدة الطعام ، وكانت الحاجة  الأم تذكرني أني لن أغادر بيتهم قبل أن أقوم بشيئين : أن أعلمها و بناتها طريقة تحضير الكسكس المغربي،  و أن أخصص يوما بلا عمل كي تتمكن من دعوة "مشاطة" إلى البيت لتسرح شعري على طريقة بنات السودان. كانت الفكرة تروقتي جدا، خصوصا تسريح شعري على طريقة نساء البلد، و كنت قد التحفت منذ أول أسبوع لوصولي ثوبا سودانيا أحمر اللون – ملحفة بلغة أهل الجنوب في المغرب- كنت أستمتع بالتجول به لإجراء مقابلاتي خلال النهار. المشكل الوحيد كان يكمن في الوقت فقط ، فعملية التمشيط قد تستغرق يوما كاملا، و أيامي هناك كانت معدودة ، إلا أنني بعد طول إلحاح من الأم وصلت معها إلى اتفاق معقول، و هو أن أزور المشاطة بنفسي ذات يوم أنهي فيه عملي استثناء بعد العصر، دون حاجة إلى ترتيب يوم كامل بحضور كل العائلة كما تقتضي العادات المتعارف عليها هناك.

في حدود الساعة الرابعة بعد العصر، كانت سارة إحدى بنات "ختم السر" تنتظرني أمام باب البيت على متن"الركشة"  الذي ستأخذنا إلى بيت المشاطة، المسافة كانت طويلة جدا بين أرقى أحياء "أم درمان" و واحد من أفقر أحياءها، حيث تسكن المشاطة و جيرانها من الجنوبيين الذين يعيشون في العاصمة.  دخلنا إلى بيت المشاطة التي قادتنا إلى غرفة التلفزيون، حيث تجمعت بعض النساء لمشاهدة مسلسل مصري، فتحت "تحسين" شعري و بدأت في تمسيده بحنو و هي تسألني عن نوع التسريحة التي أريد: البرنس، الشبكة، المتاهة، الشتات، الشتح، الشياطين .... و سيل أخر من الأسماء التي لم تكن تعني لي شيئا على الإطلاق سوى أن أسماءها لا تبعث على الارتياح، استنجدت بسارة و طلبت منها أن تساعدني على اختيار تسريحة بسيطة من دون بهرجة و قد استثنيت الشياطين و الشتات لقناعتي أنهما حالة نفسية أكثر من كونهما تسريحة شعر.نصحتني سارة باختيار "الحبشية" ، قالت أنها ستليق على شكل وجهي و على نوعية شعري. امتثلت المشاطة لاختيارنا وبدأت عملية التمشيط و خلط الشعر بشعر مستعار بني كنا قد أحضرناه معنا و مع أنها لم تكن ثرثارة كثيرا نجحت في استفزاز رغبتها في الحديث عن عالم "المشاطات" ، عرفت منها أنه قد كان للمشاطات مكانة مهمة في المجتمع السوداني فهى خطابة و جليسة و صحفية أيضا، هكذا قالت "تحسين"التي استطردت في الشرح ، فالمشاطة  لها دور كبير في نقل الأخبار بسرعة قياسية، و تكذيب الإشاعات أو نشرها ، حسب الظروف، أحسست أن رأي" تحسين في الصحفيين واضح لا لبس فيه.

مرت ست ساعات على بداية التمشيط، و لم نكن قد انتهينا بعد، بدأت الحركة تقل في البيت، بعد أن خلد الكبار للنوم، عدد قليل من الأطفال كانوا لا زالوا يتسامرون أمام باب البيت و تعلو ضحكاتهم من وقت لآخر، أما أنا فكنت قد بدأت أحس كأني جزء من هذا المكان، و لم أعد أذكر حتى لماذا جئت إلى هنا، كنت أنظر لمرآة صغيرة أمامي كل خمس دقائق، و يخيل إلي أنه مازال أمامنا مثل الوقت الذي قضيناه أو أكثر. كان الإرهاق قد بدأ يظهر على وجه سارة و تحسين، و أنا طبعا كنت متعبة جدا من الجلوس على الأرض، لكني كنت متحمسة لرؤية شكلي النهائي في تسريحة الحبشية .

مع حلول منصف الليل ، انتهت تحسين من تظفير آخر خصلة للشعر، و أصبحت أنا و سارة جاهزتين للانصراف بعد أن دفعت سارة بكل أريحية و كرم للمشاطة  ثم وضعت بين يديها كيسا صغيرا كان معها ، فهمت أن فيه عطرا و صابونا كهدية لتحسين كما تقتضي العادة . كان علينا عبور "الحوش" الذي كان ممتلئا عن أخره بأجساد صغيرة لكل أطفال البيت الذي كانت تسكن فيه ثلاث عائلات قبل أن نجد أنفسنا في شارع ضيق مظلم بالكاد كنا نرى فيه موطئ أقدامنا على نور هواتفنا النقالة.

لم تنته قصة المشاط هنا ، فأنا أنم تلك الليلة من شدة الألم الذي تسببت فيه الضفائر على فرو شعري، كنت انظر إلى المرآة و أعود مرة ثانية لأغفو قليلا رغم الألم المتزايد. مع طلوع الشمس أحسست أن ثمة شخص يدخل إلى غرفة الضيوف التي كنت أنام فيها، كانت "منة"  شابة جنوبية تقيم مع عائلة "ختم السر"، جاء بها الفضول لتتلصص على شكلي بالمشاط، لم تمض دقائق ، حتى كنتُ جالسة على الأرض من جديد و "منة" تفك المشاط و هي تردد : الطول طول النخلة والعقل عقل السخلة .. 


أم درمان (السودان) 2005
أم درمان (السودان) 2005

 
 
 

Comments


 آراءكم و تعليقاتكم ما عليكم أمر

© 2023 by The Voice of Sanaa. All rights reserved.

bottom of page