مغاربة في هانوي
- sanaelyounoussi

- Jan 15
- 6 min read
للصباحات في هانوي طعم الجنة ... أو هكذا أحسست في أول أيام زيارتي
و أنا ذاهبة إلى هانوي بالطائرة من سايغون، أو مدينة "هو تشي منه" كما أصبحت تسمى منذ سنة 1975 تاريخ رحيل القوات الأمريكية من فيتنام و استسلام حكومة فيتنام الجنوبية للشيوعيين الشماليين، قرأت أن لزيارة هانوي نكهة خاصة ، نكهة لن يعرف سرها إلا الزوار الذين سيسابقون الشمس في الاستيقاظ ليشهدوا طلوع يوم جديد على بحيرة هوان كييم .
لم أتردد في حجز غرفة في فندق قريب من البحيرة في حي تجاري لا يهدأ ليلا أو نهارا ، كان سعر الغرفة سبعة عشر دولارا بالتمام و الكمال ، مع أن مستوى النظافة و الخدمات في الفندق كانا جيدين جدا. و بعد جولة مسائية بين مطاعم الحي بحثا عن وجبة نباتية آمنة لا أفاعي و لا كلاب فيها، استسلمت للنوم و أنا أمني نفسي بإفطار شهي من القهوة و "الكرواصان" في أحد مقاهي المدينة التي لازال تأثير الفرنسيين جليا فيها.
تمام الساعة الخامسة صباحا ، كنت أمام البحيرة ، لم أكن وحدي هناك، بل كانت الحركة كما لو أن النهار قد انتصف، مجموعات من النساء و الشباب و السياح، كانوا قد أخذوا مكانهم بعد أن أدوا صلواتهم و أشعلوا الشموع أمام معبد "نيوك سون" الذي يوجد على جزيرة وسط البحيرة قبل أن يبدأوا في تمارين "التاي تشي" الصباحيةـ التي بدت لي و أنا أراقب هذا المنظر الجميل و كأني أشاهد رقصة جماعية تحتفي بطلوع الشمس التي بدأت تلقي بخيوطها على وجهي و كأنها تذكرني بسبب زيارتي لهانوي .
"ألو .. مليكة .. أنا اسمي سناء ، حصلت على رقمك من أهلك في مدينة سيدي يحيى .. أنا في هانوي و أريد أن ألتقي بك"
كان عنوان "مليكة رشدي" مترجمة السفارة المغربية في هانوي -سابقا ـ سهلا و بسيطا : مطعم "مراكش" على طريق المطار ، هكذا قلت لسائق التاكسي باللغة الفيتنامية ، تماما كما طلبت مني مليكة أن أقول .
حين وصلت للمطعم ، وجدت كل شيء يعود بي إلى المغرب، مصابيح الإضاءة، و لباس النادلات ، رائحة التوابل المغربية و الموسيقى المنبعثة من الصالة الداخلية. كانت مليكة و زوجها في انتظاري أمام بوابة المطعم، و أمامهما فتاة بملامح فيتنامية بابتسامة بريئة و جميلة ّ، انتظرت دورها لتسلم علي و تقول لي بلهجة مغربية متعثرة " السلام عليكم ، خالتي "
بعد كأس الشاي المغربي ، شرحت لمليكة أنني في هانوي بحثا عن عائلات الجنود المغاربة الذين جلبتهم فرنسا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينات من القرن الماضي ، للمشاركة فيما يعرف بحرب الهند الصينية "لاندوشين" ، و أني سمعت من بعض الجنود المغاربة الذين لازالوا أحياءا ، أن بعد عودتهم للمغرب سنة 1972 لم تتمكن ثلاث عائلات من العودة معهم على متن الطائرة العسكرية التي أقلتهم من هانوي إلى المغرب، بسبب وفاة أبائهم المغاربة ، و عدم قدرة الزوجات الفيتناميات على إثبات زواجهن من مغاربة بسبب عدم توثيقهم لعقود الزواج العرفية أيام الحرب ..
كانت الفتاة الفيتنامية قريبة جدا من طاولتنا ، كان يبدو أنها متوترة و تنتظر أن يأتي دورها بسرعة و أن تنضم إلى حديثنا ، لم تتأخر مليكة، نادتها باسمها الفيتنامي و طلبت منها أن تقترب، قبل أن تقدمها لي : هذه "جميلة " الابنة البكر لعلي بن محمد بن عبد المجيد، أكبر أبناء المغاربة الذين لازالوا هنا ، و سيكون هو دليلك في رحلة البحث عن هذه العائلات .. أحسست بشعور غريب بالطمأنينة و أنا أستمع إلى كلمات "مليكة"، أحسست أن معالم قصتي بدأت تتضح، لكن هذا الشعور اختفى بسرعة و أنا أرى دموع "جميلة" التي اقتربت مني و عانقتني و كأنها تعانق المغرب في ... كم كان حملا ثقيلا أن تختزل هذه الفتاة كل أحاسيس الشوق لوطن مجهول في سيدة مجهولة ، لا يجمعها بها سوى الدقائق التي قضيتها في المطعم منذ وصولي
للصباحات في هانوي طعم المغرب .. هكذا أحسست هذه المرة و أنا أركب السيارة التي ستأخذني إلى عائلات المغاربة في قرية " دوان هون" على بعد 300 كيلومتر شمال هانوي
اخترت للفيلم الوثائقي الذي كنت أصوره عن عائلات هؤلاء الجنود المغاربة اسم "أربعون عاما من العزلة" ، كنت قد بدأت التصوير في قرية "سيدي يحيى" المغربية، حيث استقرت معظم العائلات التي عادت إلى المغرب عام 1972 ، هناك تعرفت على عائلة "مليكة رشدي" و والدتها "أوب" التي أصبحت "أمي حبيبة"، تعرفت على "أوك" و هي سيدة فيتنامية رائعة يناديها أهل المزرعة باسم أمي فاطمة، تعرفت على العجوز اللئيمة "تي هيان" التي تدعي أنها تعالج كل الأمراض بإبر لم أنجح أبدا في معرفة مصدرها، و تعرفت على "با ك مون" أو خالتي مون التي لم تتعلم كلمة واحدة بالعربية مع أنها تعيش في المغرب منذ أربعين عاما، و كانت الرحلة إلى "دوان هون" في فيتنام هو الجزء الذي سأتحدث فيه عن الوجه الآخر لعزلة هذه العائلات التي لم يسمع الكثيرون حتى بوجودها.
كان على متن السيارة التي بدأت تطل على مشارف هانوي ، مصوري الألماني ، و المترجمة التي عينتها وزارة الاتصال لمرافقتي في الرحلة، و سائق لا أظن أن اختياره كان محض صدفة، بل أظنه متعاونا مع الجهة التي كانت مكلفة بمتابعة تفاصيل رحلتي للقاء هؤلاء الفيتناميين الغرباء .
بدأت السيارة تخترق غابة كثيفة حجبت عنا رؤية السماء، كنت بدأت أتوتر قليلا بسبب ما كان يدور بين المترجمة و السائق دون أن أستطيع فهم ما يدور حولي، و كنت كلما سألت المترجمة تقول لا تقلقي ، هناك زملاء لي يقومون بالتنسيق مع العائلة التي ستستقبلنا و كل شيء على ما يرام. بعد نصف ساعة قضيناها تقريبا في منعرجات ضيقة و رطبة، بدأت الرؤية تتسع قليلا حتى بدأ يظهر لنا كوخ صغير من القش يطل على بحيرة واسعة تحيط بها نباتات غريبة ، و بدأت تلوح لنا من بعيد أيادي تلوح في الهواء ترحيبا بالزوار القادمين
بدأت أحس بالطمأنينة و أنا أرى العدد الكبير من الأشخاص الذين جاءوا لاستقبالي، أحسست كأني بين أهلي، مددت يدي و بدأت في السلام عليهم بحرارة و امتنان على تجمعهم اليوم لاستقبالي و الحديث إلي، أنا القادمة من الأرض التي ينتمي إليها آباءهم، إلا أني سرعان ما استفقت من مشاعري الوطنية الجياشة على صوت مترجمتي الفيتنامية و هي تقدم لي شخصا بقي منزويا و بعيدا عن الجموع التي ظننتها سلالة الجنود المغاربة، قالت لي هذا هو "علي" صاحب البيت و ابن الجندي المغربي، هذه زوجته و هذا ابنه "هوان" مشيرة إلى شاب لا يتجاوز عمره السادسة عشر كان يجلس على الأرض ، ثم استأنفت تقديمها ، مشيرة إلى باقي الحاضرين الذين سبق و أن سلمت عليهم و عددهم تقريبا عشرة : أما هؤلاء فهم زملائي ، كلفتهم السلطات في هانوي بالتنسيق مع العائلات هنا لتسهيل زيارتك إلى "دوان هون"
تحينت أول فرصة للاتصال "بمليكة" في هانوي وإخبارها بالإنزال المكثف للسلطات المحلية في بيت "علي"، لم تستغرب ذلك طبعا، و أخبرتني أن "علي" اتصل بها ، و بأنه متخوف من الحديث معي أمام هؤلاء، خصوصا و أن المترجمة ستكون هي حلقة الوصل بيننا ، طلبت مني "مليكة" ألا أسأل "علي" أي أسئلة محرجة من قبيل تعامل الفيتناميين معهم، أو سبب رغبتهم في العودة إلى المغرب، لأنه لن يجرؤ على الشكوى و انتقاد الظروف التي يعيش فيها هو و باقي أبناء المغاربة أمام كل هؤلاء المخبرين
بعد ساعات من وصولنا إلى بيت علي ، وصلت دراجة نارية و عليها "بوجمعة" شقيق علي و "حبيبة" ابنة جندي مغربي آخر.كانا محملين بأكياس من الفاكهة الغريبة التي لم أر مثلها من قبل، احتضنتني "حبيبة " مطولا و مسحت بيدها على وجهي و تأملتني طويلا ثم أجهشت بالبكاء، كانت المرة الأولى في حياتها التي تلتقي فيها شخصا يحمل نفس معالم وجهها هي ابنة قرية "سيدي قدور" بضواحي مكناس.
بعد يوم طويل رفقة "علي" و "بوجمعة" و الآخرين، بدأ الظلام ينزل مصحوبا بزخات مطرية قوية منعتني من استئناف التصوير، فقررنا التوقف و الاستئناف في اليوم الموالي للذهاب لزيارة باقي العائلات، أما "حبيبة" فطلبت من مترجمتي إن كان بإمكانها قضاء الليلة معنا في الفندق، و مرافقتنا في الغد إلى بيت أهلها، و حين أجبت بالقبول لم تنتظر الترجمة، كان يكفي أن ترى ابتسامتي قبل أن تحتضنني من جديد و تمرر بيدها على شعري الذي بللته الأمطار ، كانت سعيدة كطفلة .. و كانت نظرتها حزينة و منكسرة
لم تشرق الشمس في اليوم الموالي، حين نزلنا من الفندق كنا بالكاد نرى بعضنا بسبب كثافة الضباب، الفندق أصلا كان يوجد في منتصف غابة كثيفة من الأشجار التي لم أر أبدا في حياتي أشجارا بطولها، كان "علي" و زوجته في انتظارنا ، لنذهب إلى السوق الأسبوعي للقرية ..
إيقاع الأيام في "دوان هون" حزين و منهك، الفقر المدقع يجهد الناس و يجعلهم مستسلمين و مستكينين، حتى علي وزوجته المثقلين بهم ابنهما الأصغر الذي أصيب بشلل بعد حادث بدراجته النارية في ليلة انقطع فيها الكهرباء عن القرية، لا يستطيعان التظاهر بالتفاؤل مطولا، و ما إن ينفردان بي بعيدا عن أعين المترجمة و كتيبة المخبرين التي ترافقنا ،حتى يبثان لي شكواهما بلغة لا أفهمها، لكني كنت اعرف أن فيها رجاء و توسلا كثيرين لأقوم بأي شيء لاصطحابهم إلى المغرب، حيث يعتقدان أن لون الحياة هناك زهري و أن طعمها حلو .. هناك .. في المغرب فقط، قد يكتب لابنهما المشي على قدميه مجددا.. أو هكذا يعتقدان
كان اللقاء بباقي العائلات حزينا، كانت الدموع تنهمر من عيني "طامو" شقيقة "حبيبة " الكبرى و هي تحكي لي كيف توفي والدها و كيف أنها و أختها تحملان اسم الجدة و العمة، أخرجت "طامو" من حقيبتها صورا لأشخاص مغاربة ، أخبرتني بأنهم أبناء عم والدها و بناته و أبناءه، و أنها لا تحلم إلا باليوم الذي ستلتقي بهم فيه هناك في المغرب، حيث ستكون حياتها أفضل وسط أهلها.. أخبرتني أنها لو حصلت على تعويض من السلطات المغربية ستشتري قطعة أرض هناك و ستزرع فيها و تقلع و ستنفض عنها هموم الفقر التي تحاصرها هنا منذ ولادتها .. "حبيبة" و "طامو" و "علي" و "بوجمعة" ... يعتقدون أنه لا وجود للفقراء في المغرب و أن الفقر صناعة فيتنامية ...








Comments